الوجه الٱخر للكاتب/بقلم:نعمان حميشة
الأكاديمية السورية الدولية للثقافة والعلوم
الوجه الآخر للكاتب ..
التناقض يلازم الكثير من الكتاب . بين مايكتبونه وما يمارسونه من سلوك يومي ، والبعض منهم يعاني من ازدواج في الشخصية فهم رومانسيون في حياتهم الشخصية الخاصة من جهة ، وصادمون من جهة أخرى ، وغالبا مايحكم على الأديب من قبل أفراد مجتمعه بأنه غريب الأطوار ويتهمه بعض المقربين منه بأنه مصاب بحالة انفصام لا دواء لها ...... كاتب الأورغواي التقدمي الشهير كارلوس ليسكانو يقول .. الكاتب دوما اثنان ، ذلك الذي يشتري الخبز والبرتقال ويجري الاتصال الهاتفي ويذهب الى عمله ويدفع فاتورة الماء والكهرباء ويحيي الجيران ، والآخر الذي يكرس نفسه للكتابة ، الأول يسهر على حياة المبتكر العبثية الإنعزالية ، إنها خدمة يؤديها بكل سرور ...... الشاعر التركي المناضل ناظم حكمت حافظ على حالة متأججة من العشق وكتب عشرات القصائد المعبرة عن حبه ولوعته لعدم تمكنه من رؤية زوجته منور عندما كان في السجن الذي استمر لسنوات ، وبمجرد خروجه من السجن هاجر الى روسيا تاركا إياها مع استمراره بكتابة الشعر
فيها ..؟
يتمنى الكاتب أن يعيش حرا طليقا من أية قيود أدبية أو اجتماعية ، والحرية التي يعيشها الكاتب في حياته العامة ويروج لها في أدبه ونصوصه الإبداعية يقابلها في بيته بإصدار الأوامر وممارسة القمع واتخاذ القرارات نيابة عن الآخرين الذين يعيشون معه سواء كانوا أبناؤه أو زوجته وحتى أقاربه ، فالشخص الذي يكدح ليل نهار من أجل لقمة الخبز هو الشخص نفسه المسكون بالرؤى والحالم والمليء بالتصورات عن عوالم سحرية وحكايات عشق تخرج العالم من كل ما هو أرضي ودنيء ... عندما كتب بودلير قصيدة .. سماء غائمة .. التي تعد من أجمل قصائد ديوانه الخالد . أزهار الشر . كان برتجف من البرد في أحد فنادق باريس الرخيصة ، بينما رامبو كتب أروع قصائده أثناء تشرده في شوارع باريس وأزقتها الخلفية حيث الفقر والتشرد والحرمان .
بين الأديب والواقع حواجز تمنع الروية أو تحدها ، والإصرار على بناء جدار من العزلة حوله وقد أوصد كوى جوانحه وخياله وتغليف نفسه بالبرودة والصقيع وهو يشحذ قريحته لاستنتاج المعاني ، ونتجلى في التفاعل غير المتكافئ مع المجتمع ، وقد كان الفيلسوف الألماني نيتشة كلما تقدم به العمر يزداد جنونا وسخرية من الإنسانية وبغضه لنفسه وعزا الكثيرون سبب جنونه الى خيبة أمله في مغامرته العاطفية عندما نبذته المرأة التي أحبها وكان يرغب بالزواج منها .... قال كاتب مغرور للكاتب الساخر جورج برنارد شو .. أنا أفضل منك ، فأنت تكتب بحثا عن المال ، وأنا أكتب بحثا عن الشرف ، فقال له برنارد شو .. صدقت فكل منا يبحث عما ينقصه .
الأدباء يعيشون تناقضات كثيرة ، تراهم متسامحون في سلوكهم الاجتماعي الى درحة تصل أحيانا الى حد البلاهة والهبل . وقساة ظالمون في جوانب أخرى تخص حياتهم وإبداعهم ، أحرار الى حد الانفلات في بعض المواقف ومقيدون الى درجة يخال لمن يراهم أو يسمعهم بأنهم في سجن غير مرئي لا يستطيعون التحرك خارج حدوده الضيقة ، وعند المقارنة بين نصوصهم ومايمارسونه داخل منازلهم وأسرهم ، فالكاتب الي يعيش بيننا ويتجول يراقبنا بنظرات ثاقبة ، هو ذاته الذي يحدثنا عن مخلوقات غير مرئية منها ماهو أرضي ومنها ماهو سماوي ، وهو الذي يكشف لنا زيف العالم وإجرام البعض ويقودنا عبر رؤياه وحدسه الى كهوف القتلة والسارقين ويشير بقلمه الى الخلاص والحرية ، وهو نفسه الذي تراه يصرخ في وجه زوجته ويتسوق ويتشاجر مع جاره ويضرب ابنه وغيرها من التصرفات البشرية اليومية ، وإذا كان الكاتب امرأة تلاحقها الأسئلة حول أمومتها وإذا كانت قد حبلت وأنجبت وأرضعت وربت أبنائها كبقية النساء ..... عندما انتحر الكاتب الأمريكي أرنيست همنغواي عام 1961 قال عنه الكاتب الأمريكي جون شتاينبك .. لقد كان مغرورا جدا ، خلق صورة مثالية لنفسه ، ثم حاول أن يعيشها .. ثم تنتهي حياة شتاينبك بالانتحار مع رسالة تدين الحروب في العالم .
عند انحسار شخصية المبدع عن الكاتب يعود شخصا عاديا ويبدو في عيون من حوله شخصية ثقيلة الظل لا تبهج عينا ولا تسر قلبا ، وهناك الكثير من المعجبين عند رؤيتهم لكاتب أحبوا نصوصه الإبداعية يصابون بالخيبة والاحباط وفقدان الأمل .
......
تعليقات
إرسال تعليق