قصة من التراث الجزائري بقلم الاستاذة زهية محمد

حكاية من تراثنا الجزائري بأسلوبي وتنميقي وقلمي ..
يقال أن رجلا في زمن مضى تزوج من امرأة ساذجة على نياتها كما نقول..
كانت طيبة القلب سليمة النية  ، الذي في قلبها على لسانها  ، والذي على لسان الغير تصدقه دون تفكير أو تمحيص ..
الزوج كان عامل يومي ، يوم يشتغل وعشرة لا يجد..
وكانت لقمتهما على قدر ما يجود به يومه ، فإذا حل المساء عاد ومعه رغيف خبز وقليل من الدهن أو الزيت ..
والنفس تشتهي وتطلب ، والمخلوقة ملت من الرغيف والزيت ،  والزوج يعلم أن عقلها لن يشتغل ويطلب المزيد..
لكنها ذات ليلة فاجأته حين طلبت منه بعض اللحم ، فقد اشتهته وبإلحاح طلبته ..
فقال دون تردد ..سيكون حاضرا ما طلبت وأزيد فاكهة وحلوى إن أردت..
 نهضت في الصباح الباكر مسرورة ، وبدأت أشغالها بين تنظيف وكنس ، ولأنها كانت على نياتها ، فما تركت جارة إلا وأخبرتها بما دار بينها وبين زوجها ..
حل المساء وهي عند بابها تنتظر ، فإذا بزوجها يدخل بصفيحة الزيت كالعادة ورغيف خبز لا زيادة...
وحين استفسرته رد عليها بثقة عالية ، أنت زوجتي الغالية ، وتستحقين ما هو خير ودائم ، ففكرت في قرطين تزينين بهما تلك الأذنين، ويكونان ذهبا خالصا ، ادفع ثمنها ووجهي باسما ..
مضى الليل عليها كأنه الدهر ، وما أن بزغ بعده الفجر ، حتى هبت واقفة ، تنظف وتكنس والبسمة لها غير مفارقة ..
وكالعادة دارت على كل دار تخبر الكل بما بينها وبين زوجها دار ..
وزادت عن ذلك أنها طلبت من الجارة ، أن تثقب لها أذنيها وبكل ثقة و إرادة..
حل المساء ، فتسمرت عند الباب منتظرة ، والقلب يدق دقات متصاعدة ..
فإذا بزوجها مقبل ، وكالعادة جاءها بما أصبح عشاءها عادة ..
فقالت أين أقراط الذهب ، وقد تكبدت عناء الثقب ..
قال على عيني قد نويت لك أن أشتري ، ولكني رجوت لك خيرا كي تتستري ..
أريد أن أشتري لك بيتا ، وحوله يكون هناك حوشا ..فيه تمرحين وتلعبين ، ومن هذا العناء ترتاحين ..فلا تراب هناك ولا طين ..
أصبحت ذاك الصباح مشرقة، بشوشة الوجه ضاحكة ..
وبدأ تلم أشياءها ، وفي صرات تجمع أغراضها ..
وطبعا كالعادة ، أعطت سرها لكل جارة ، وودعتهم على أن يأتوها قريبا في زيارة ..
ومن فرط نيتها ، ارتدت حجابها ، ناظرة عند عتبة بيتها  ..
فزوجها حتما قد اشترى الدار ، وهو مقبل ليهز  ما ربطت وحزمت من الأحمال..
فإذا به مقبلا وما أن رآها على تلك الحال ولى مدبرا  ..
فقد نفذت حيلته ولا يدري ما هي هذه المرة حجته ، مع هذه المرأة الساذجة التي لا تستوعب أنه فقير حد الحاجة ..
التحق بجماعة يتسامرون ، وجلس بينهم وقد خاف أن يصاب بالجنون ..
فإذا بأحدهم يأخذه جانبا ، ويسأله لما يبدو مهموما حائرا ..
فحكى له الحكاية من البداية إلى النهاية ..
قال له الصاحب إذا أردت منها التخلص ، فضعها في فم المدفع وادفع ..
انا عندي لك الحل ..
هناك دار للبيع موجودة ، لكنها بجنية مسكونة ، وسعرها دراهم معدودة .. 
ما سكنها بشر إلا وخرج منها فاقدا لعقله ، او محمولا على نعشه . .
تضرب عصفورين بحجر واحد ، تفي بوعدك لها ، ولن تعود ترى حتى خيالها ..
فرح بهذا الرأي الذي يُراد من ورائه الخراب ، وعاد مسرعا يبشر زوجته بأن طلبها مجاب ..
وفي الصباح التقى صاحب الدار ودفع الثمن ، وجاء بالحمال يأخذ ما حزمته الزوجة 
على ظهر الجمل ..
أوصلها الى باب الدار وعاد أدراجه مسرعا ،  واعدا إياها أن يعود مساءا إليها متشوقا ... 
 وأخبرها أنه سيبعث لها خادمة تعينها ، ومن ترتيب البيت وما هو شاق تريحها ..
دخلت ذات النية الصافية ، ترتب أثاثها في انتظار الخادمة ..
فإذا بصوت من ورائها يأتي  كأنه صوت ذئب يعوي ..
التفتت وأبشع وجه وجدت ، ولم تدري أنها الجنية تريد لها الأذية..
قالت لها ما بالك تصرخين والأولى أنك تكنسين ، ألم يرسلك زوجي لخدمتي فما بالك تستهتري ..
هذا ليس وقت اللعب يا امرأة، هيا وخذي مني المكنسة ..
لم تستوعب الجنية ما تراه  ، فزادت من عوائها وصداه ، فلم تتمالك المرأة نفسها ، ورفعت كفيها وعلى وجه الجنية تلطماه ..
فما كان منها إلا أن استسلمت في ذهول ، وأصبحت عبدة للمرأة ذلول ..
واشتغلت دون راحة ، لم تترك غرفة إلا نظفتها وزادت الحوش و معه الساحة ..
ولأنها لم تألف ذلك التعب  ،فقد ترجت سيدتها أن تعتقها ، مقابل جرة من الذهب..
وبكل سذاجة ونية ، قالت لها هاتيه ولك الحرية ..
وفي رمشة عين كانت الجرة أمامها ، والذهب يلمع داخلها ..
قالت الجنية هاك الذهب واعتقيني وإلى أهلي أنقلب .. 
قالت لها مودعة ، معروفك لن أنساه ما دمت حية  قائمة ..
في لمح البصر اخذت بعض الذهب ، وسارت إلى السوق واشترت لحما وخبزا وعنب ، ولم تنسى طبعا أقراط الذهب ..
حل المساء وتزينت تنتظر زوجها ، ومن جهته حدثته نفسه أن يرجع ويستطلع أخبارها..
ما أن اقترب من الدار ، حتى دغدغت أنفه رائحة اللحم و الخضار ..
دخل فوجدها في أبهى حلة ، والقرطين زاداها جمال الطلة ..
حكت له ما جرى لها مع الخادمة  ، وهو في سره يعلم أنها الجنية الساكنة..
تبسم في وجهها وضحك وقال ..من قلبك الصافي ونيتك الطيبة جنيت ، ومن صبرك وسذاجتك نلت وما أطيب ما نلت  ..
عندنا مثل في الجزائر يقول ..مول النية إذا ما ربح يسلك على خير 
وولد الأصل لو توكلو زيت حافي يصونك ، وقليل الأصل لو توكلو لحم كتافك يخونك ..
وتوتة توتة خلصت الحدوتة 
زهية محمد...أم أمين الجزائر 29 / 06 /2020

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

يا ‏سيدة ‏الجمال ‏ ‏ ‏ ‏ ‏ ‏// ‏ ‏ ‏ ‏ ‏بقلم ‏الشاعر ‏لؤي ‏الشولي ‏

أيقونة الصباح // بقلم الشاعرة منيرة سلمان تفوح

ما حيلة المشتاقِ/بقلم الشاعر د علاء الدين آله رشي